الرئيسية مقالات واراء
ما كشفته قضية مقتل شاب عمره 18 عاما جراء أشكال مختلفة من التعذيب والاعتداء داخل مركز أمني، تكاد تعصف بإيماننا بمبدأ سيادة القانون، وتحيلنا إلى حكايات "العسكر العصملي" التي وخزت خيالاتنا حين روتها جداتنا لنا ونحن ما نزال أطفالا.
الصور التي ظهرت للشاب، الذي كان موقوفا بتهمة جنائية لنحو أسبوع، تكشف حجم الاعتداء الذي وقع عليه من قبل ضباط وعناصر في المركز الأمني، وتكشف عن البشاعة حين تقرر استخدام سلطتها من دون وازع إنساني أو أخلاقي، ومن دون مرجعية قانونية، وأيضا من دون مراعاة قدسية الروح الإنسانية التي من المفترض أن تكون هي الأساس في أي مجتمع، لنتأكد عندها أن "السلطة المطلقة مفسدة مطلقة".
هؤلاء ممن في يدهم تطبيق القانون، يقررون في غفلة من ضميرهم وأخلاقهم أن يوقعوا العقوبة على الشاب الغض الجسد، فتأتي ضربتهم القاضية لتنهي عمره وتدفن أحلامه الصغيرة. وبينما هم عاكفون على فعلتهم تلك، لم يتخيلوا شكل والدته وهي تتسلم جثمانه، ولا تخيلوا شعور الأب وهو يرى ابنه يقضي بجرم لم يستحق الموت مقابله، وهم، بالتأكيد، لم يقدّروا حجم إساءة فعلتهم إلى الجهاز الذي ينتمون إليه والذي رفع على الدوام شعار أنه في خدمة الشعب، لا لقتله، ولا استطاعوا استبصار حجم الهوة التي يبنونها بينهم وبين المجتمع.
هي ليست المرة الأولى، ولا أدري إن كانت ستكون الأخيرة، التي تقع فيها حوادث تجبر المجتمع على إعادة تقييمه للعلاقة مع الأجهزة الأمنية، وترشده إلى شواهد كسر الثقة بين الطرفين، وتلغي فكرة سيادة القانون وتطبيقه على الجميع بعدالة، لأن هناك قصصا كثيرة عن الاعتداء على موقوفين لا يجري فضحها.
واحدة من هذه القصص كانت قبل أشهر؛ قوة أمنية تستخدم كل ما لديها من سلطات للقبض على شاب لأنه استخدم الهاتف الخلوي أثناء قيادة مركبته. قامت القوة وعددها يفوق 12 فردا بالقبض على الشاب بعد أن أطلقت عليه الغاز المسيل للدموع وأشبعته ضربا، كل ذلك بسبب مخالفة عادية يعاقب عليها القانون بغرامة مالية.
في هذا الزمن الصعب الذي تتعدد فيه التحديات، من المهم أن يكون جهاز الأمن، بجميع عناصره، سندا للدولة والمجتمع، وأن لا يسرف في استخدام السلطة، وعليه، بدلا من تنفير الناس والمجتمع منه، أن يعمل على استعادة الثقة به وبما يقوم به من مهمة نبيلة، وأن لا يلجأ إلى العنف لدرجة إعادة أحدهم جثة هامدة لوالديه.
التطور المهم في قضية الشاب الذي توفي، رحمه الله، يتمثل في ما قرره مدير الأمن العام اللواء الركن أحمد سرحان الفقيه، الأسبوع الماضي، بإيقاف كل من شارك بالتحقيق مع الشاب أثناء توقيفه في مركز أمن بادية الجيزة، وتشكيل لجنة خاصة للتوسع بالتحقيق في الحادثة والوقوف على جميع ملابساتها، واتخاذ كل الإجراءات القانونية حيال من يثبت تورطه في الحادثة.
بيان الأمن العام نفسه، وللمرة الأولى، ربما يشرح بعض التفاصيل، إذ جاء فيه أنه تم إسعاف أحد الموقوفين من مواليد 1998، يجري التحقيق معه بقضية جنائية من البحث الجنائي في مركز أمن بادية الجيزة، للمستشفى، بعد تعرضه بشكل مفاجئ لحالة إغماء، حيث وصل للمستشفى وما لبث أن فارق الحياة.
لجنة مكونة من 4 أطباء شرعيين تقر بوجود كدمات وسحجات على مختلف مناطق الجسد، ليتم أخذ العينات اللازمة من الأنسجة وإرسالها للفحص المخبري لتحديد السبب الرئيسي للوفاة، ما يحيي الأمل بإمكانية وضع حد لمثل هذه الممارسات الكارثية.
ندرك أن مثل هذه الأحداث تقع في كثير من الدول، بيد أن المهم هو كيفية التعامل معها وتطبيق القانون على من يخالفه وإيقاع العقوبة المناسبة عليه، حتى لو كان من رجال الأمن، فهذا أساس بناء دولة القانون وسيادته.