الرئيسية مقالات واراء
مرّة أخرى تأتي أحداث محلية لتشغل بال الرأي العام ومواقع التواصل الاجتماعي، ونقاشات المسؤولين والسياسيين، من هتافات "كسر خشوم" و"حنا كبار البلد" إلى أحداث الصريح المؤسفة.
لكن هذه الصورة المكثفة والمصغّرة لأحداث الأيام القليلة الماضية من المفترض ألا تحجب خلفها الصورة الكبرى، التي -للأسف- تثير القلق والهواجس أكثر. فزيارة واحدة إلى محكمة أمن الدولة لمعاينة بعض المشاهد اليومية لآلاف القضايا في المخدرات والإرهاب كفيلة بأن تزرع رعباً أكبر بكثير في قلب الزائر.
إذا أضفنا إلى هذا وذاك موضوع الانتحار والجرائم الغريبة التي أقحمت نفسها على حياة الأردنيين، فإنّ هنالك شيئاً ما يحدث في رحم مجتمعنا، ومياها تمرّ تحت أقدامنا..
أعرف، عزيزي القارئ، بأنّ هذا الموضوع ليس جديداً وستقول في نفسك: كلما حدثت واقعة أو نُشرت أخبار مقلقة نعود إلى عزف الأسطوانة المشروخة؛ ماذا حدث للأردنيين؟! لماذا وكيف تغيّرنا؟! ونتساءل عن الأسباب ونختلف في تحليل الواقع؛ فيما إذا كان أمراً طبيعياً يحدث في كل المجتمعات، أم أنّنا أمام تحولات أعمق من ذلك تهدد السلم الأهلي والمجتمعي؟!
معك حقّ تماماً! فهذا الموضوع أصبح مكروراً، لكن طالما أنّنا أمام أمور مقلقة ومزعجة ومفجعة، فلا بد من دق الجرس دوماً، والتحذير والتنبيه إلى أنّ ثمة ضرورة وطنية حقيقية، وأولوية لا تقبل التأجيل، لدراسة التحولات الخطيرة، في الحدّ الأدنى، وإدراك وتقدير الاتجاهات القادمة، ومحاولة تغيير المسار إن تمكّنا من ذلك، هذا من زاوية أخرى.
لكن من زاوية ثانية، فإنّ هنالك مفارقة صارخة فيما يحدث حالياً، فهذه الأحداث التي تستبطن قيماً اجتماعية وسياسية سلبية وضارّة، تتزامن وتتقاطع مع مسارات أخرى تحاول الدولة اجتراحها تتمثّل في مكافحة الفساد الإداري الذي تنامى خلال الأعوام الماضية، وإصلاحات إدارية وتربوية وتعليمية، وتصحيح الأوضاع المالية للدولة، واستعادة هيبة الدولة وسيادة القانون على أكثر من صعيد.
للأمانة تتوافر الحكومة الحالية على نخبة من الوزراء الشباب المتميزين، الذين يريدون حقّاً إحداث الفرق في مجالاتهم، ويعملون بجدية كبيرة لتحقيق ذلك، لكن مع ذلك فإنّ المزاج السلبي والمناخ المتشائم والمشكك المسكون بالهواجس هو الذي يملأ الفراغ في البلاد، بالإضافة إلى تراجع ملحوظ في الحديث عن الفساد، كما كانت عليه الأمور في الحالات السابقة.
ما السبب؛ لماذا لم تستطع إلى الآن "كسر المسار" الراهن، وإيجاد "نقطة تحوّل"، ولو جزئياً؟! هو سؤال أظن أنّه مهم جداً لمطبخ القرار، فكل الخطوات الإيجابية تبدو وكأنّها ألواح كرتونية هشّة، في مواجهة نهر جارٍ متدفق؟!
كيف يمكن إيجاد تحول عميق ينقلنا إلى الضفة الأخرى، أي إحلال الشعور بالأمل وتحسّس الآفاق، والتفكير بإمكانية التغيير والتطوير بدلاً من مناخات الشك والتشاؤم والسوداوية الحالية التي تهيمن على المزاج العام؟!
صحيح أنّ الإصلاح المطلوب ليس "كبسة زر"، والتراخي والترهل والتخبط الذي حدث خلال الأعوام السابقة، ومقاومة وممانعة كل محاولات التغيير والإصلاح من قبل فئات متعددة، كل ذلك لن يُمحى بين ليلة وضحاها، فنحن ندفع ثمن تراكم الأخطاء والاختلالات على مختلف الجوانب خلال الأعوام الماضية.
ثم إنّ المشكلة اليوم لم تعد تتجسّد بطرف خارج الدولة، فجزء أساسي من المشكلة بنيوي في الدولة نفسها، في التيار الممانع للتغيير والإصلاح، في الترهل البيروقراطي، في السياسات الرسمية التي جذّرت منطق الاسترضاءات، وقدّمت مفاهيم "الولاء السطحي" والشكلي على قيم المواطنة والعمل والكفاءة، ونمّت الهويات الفرعية ومشاعر "التنمّر" على القانون والدولة لأهداف تكتيكية آنية.
وللحديث بقية..