الرئيسية مقالات واراء
لا يمكن إنكار تأثير الأزمة الاقتصادية الداخلية على المزاج الاجتماعي، وعلى الحالة الاجتماعية عموماً. فالأسعار المرتفعة ومعدلات الفقر والبطالة العالية، ومحدودية الفرص الاقتصادية، كل ذلك سيلقي بظلال قاتمة على المجتمع بالتأكيد، وسيخلق ما نراه من ظواهر مرعبة في الفترة الأخيرة.
فوق هذا وذاك؛ فإنّ السياسات الاقتصادية الراهنة - التي تركّز على إنقاذ "أرقام الموازنة" من دون التفكير الجدي بالنتائج الاجتماعية- الاقتصادية، وبالضغوط التي تتعرض لها الطبقة الوسطى عموماً، بخاصة في القطاع العام، أي في المحافظات المختلفة، بما يتناقض مع "المعادلة التاريخية" بين الدولة وهذه الشريحة الاجتماعية (الأردنيين من أصول شرق أردنية)- تعزز (أي هذه السياسات) من نمو تلك الظواهر الاجتماعية، سواء ذهبت باتجاه التطرف الديني والداعشية أو باتجاه المخدرات والتهريب أو الانتحار والجرائم المختلفة، أو التمسّك بـ"الهويات الفرعية"، والعشائرية تحديداً، بوصفها "جدار حماية" واستقواء، لدى هذه الشريحة العريضة، التي تشكّل عصب البيروقراطية الحسّاسة، مع الدولة!
حالة هذه الشريحة، أي الشرق أردنيين، مع الدولة كعلاقة الابن بوالديه اللذين فجأة، ومن غير سابق إنذار، ومن دون أن يشرحا له الأسباب ويهيئاه نفسياً ومادياً، ألقياه في الشارع، وتركاه وحيداً خائفاً قبل أن يعدّ نفسه لتلك اللحظة؛ فمشاعره تجاه أبويه هي مشاعر مرتبكة مضطربة؛ بين الحنين إلى تلك العلاقة الأسرية الدافئة، وتأمين الاحتياجات الرئيسية له من جهة، وبين الواقع الراهن، الذي دفعهما إلى "إخراجه" من المنزل!
ردود الفعل ستختلف من فرد وشريحة لأخرى. البعض سيدرك تماماً أنّ تلك العلاقة انتهت، ولا فائدة من التباكي عليها، فيخرج ليعتمد على نفسه، ويقف على قدميه ولا يستسلم للعواطف المرتبكة، البعض الآخر سيحاول تشكيل عصابة وسيأخذ موقفاً عدائياً من والديه ويتهمهما بالخيانة والتخلّي عنه، وآخر قد ينحرف ويلجأ إلى الطرق الملتوية لعدم رغبته أو قدرته على الإمساك بالطريق الصحيح.
على أيّ حال، الزبدة من هذا المثال أنّنا أمام تحولات عميقة بنيوية في علاقة الدولة بالمجتمع، من دون أن يرافقها – وهذا يا سادة بند مهم- رواية متماسكة مقنعة من قبل الدولة للمجتمع والناس تشرح لهم ما حدث، وما هو مطلوب في المرحلة القادمة، ومعالم "الطريق الجديد" وتساعدهم على إدراك ماذا تريد الدولة؟ وماذا يتوقع المواطنون منها؟ وماذا يمكن أن تقدم؟! وما هو المطلوب في المرحلة القادمة.
نعود إلى قصتنا الرئيسة! فالحكومة الحالية فيها نخبة من الوزراء الجيّدين المستنيرين، لكنّهم صدّقوا قصة "التكنوقراط"، والتزموا بـ"طريقة حنبلية" بهذا التوصيف، واكتفوا بقطاعاتهم، التي ينجزون فيها جيّداً. وذلك لا يكفي، فالمطلوب أن يخرجوا عن صمتهم ويشكلوا فريقاً إصلاحياً متكاملاً ويتحدثوا مع الشارع، ويقدموا رواية إصلاحية شاملة للمرحلة القادمة!
لن يكون هنالك تغيير في المزاج الاجتماعي، ولا إدراك من قبل الناس لما تريده الدولة إذا لم تقل الدولة نفسها ذلك ولم تحدّد الإطار الجديد، ولم تشرح هي سياساتها وأهدافها، فهل سيضرب الناس بالرمل أو يفتحون بالفنجان ليفهموا الدولة اليوم؟!
الكارثة أنّ كل طرف في الدولة، مؤسسة أو وزارة تفضل العمل وحدها، كأنّها جزيرة معزولة، وهو منطق قاتل في "الإدارة العامة". والأكثر سوءاً على الإطلاق أنّ هنالك عدم تفاهم في كواليس الدولة ومؤسساتها على أجندة الإصلاح المطلوبة، وفي أحيان "حرب بالوكالة" بين هذه الأطراف الرسمية تجاه سياسات معينة!
على الإصلاحيين في الحكومة أن يخرجوا عن صمتهم، وأن يعملوا كفريق، يقدّم نفسه للرأي العام ويشتبك معه، ويخوض معركة "الثورة البيضاء" المطلوبة. من دون ذلك سنبقى ندور في الحلقات المفرغة الراهنة، و"الثقب السياسي" الأسود ينمو سريعاً!