الرئيسية مقالات واراء
يقدّم المعارض السوري المعروف، ميشيل كيلو (في مقالته أمس في صحيفة العربي الجديد) مقاربة مهمة لاتفاق الجنوب السوري، وما يمكن أن ينتج عنه من تداعيات سياسية وإقليمية، وهو الاتفاق، الذي عُقد في عمّان، وتمّ بعد جهود كبيرة من الدبلوماسية الأردنية، للتوفيق بين رؤية القوتين الكبرتين، أميركا وروسيا، وأُطلق عليه "اتفاق عمّان".
قراءة كيلو للاتفاق عميقة ودقيقة، لكن من باب الأمانة، والضرورة، لا بد من أن يعلم هو وآخرون أنّ الفكرة في جوهرها هي فكرة أردنية، وسبق أن كتبنا مقالات عديدة قبل تطبيقها، وكان الأردن هو الطرف الدولي الوحيد، الذي يراهن على إمكانية بناء توافقات روسية- أميركية حول الجنوب، وإمكانية تعميم ذلك على مناطق أخرى من سورية، وهو ما نجحت فيه الدبلوماسية الأردنية.
فأصبح الجنوب اليوم "منطقة آمنة"، أو كما يطلق عليه في الأدبيات الجديدة "منخفضة التوتر"، وتجنب الناس هناك ويلات عديدة من المجازر والصراعات الداخلية بلا أي طائل، وفي الوقت نفسه حمت مصالح الأردن الاستراتيجية والوطنية، من دون أن نتورط بإرسال جنود أو الدخول مباشرة إلى الحرب الداخلية السورية، كما فعلت دول أخرى.
بالعودة إلى مقالة كيلو المهمة، التي تنسجم مع ما أفكّر فيه تماماً، فإنّ هذا الاتفاق حقق نتائج كبيرة، منها أنّه حجّم عدد اللاعبين الإقليميين والدوليين والمحليين، وأطّر قواعد اللعبة، لتشمل أميركا وروسيا، ومعهم الأردن كطرف معني رئيس بالوضع في الجنوب، وأخرى إيران وحزب الله، وتركيا، والدول العربية الأخرى، التي لكلّ أجندته، من دائرة اللعبة والتأثير، وبذلك تخلّصنا من "فوضى الأجندات" الإقليمية والمحلية.
وفقاً لبنود الاتفاق انسحبت المليشيات الطائفية المرتبطة بالنظام السوري إلى ما وراء خط معين، بعيداً عن الحدود الأردنية، وخارج درعا، وحلّ مراقبون روس على نقاط التماس للتأكد من تطبيق الطرف الأول للخطة، بينما يتكفل الأردن والولايات المتحدة الأميركية بالطرف الثاني، وهي فصائل الجيش الحرّ بأن تلتزم بوقف إطلاق النار، كمرحلة أولى.
أمّا كمرحلة ثانية، فإنّ الأمل الأردني، والغربي، هو بتعميم نموذج الاتفاق على مناطق أخرى في سورية، كي تنعم بهدوء عسكري، ووفقاً لميشيل كيلو، فإنّ ذلك يحدّد دور المليشيات العسكرية، التي خطفت المشهد السوري، وخضعت لاعتبارات إقليمية ودولية، ولحسابات شخصية، وتحوّل "الجانب العسكري" من الصراع السوري، بحدّ ذاته، إلى بيزنس سياسي واقتصادي، بعد أن تراجع الجانب السياسي والشعبي من الثورة السورية.
يعتبر كيلو أنّ الاتفاق يمكن أن يشكّل بوابة للحقبة "ما بعد الأسدية"، ويخلّص المجتمع السوري من ديناميكات الحرب الداخلية العسكرية، ويعيد صياغة الوطنية السورية، التي تضررت وتهشّمت نتيجة الحرب، عبر تعظيم دور السياسة والسياسيين، وإعادة صوغ القيم الوطنية المطلوبة، من الحرية والوحدة، تلك التي تمثّل الهدف الحقيقي، الذي بدأت من أجله الثورة السورية السلمية، قبل أن تقمع، وتتحول إلى الجانب العسكري، ثم تتحول إلى حرب إقليمية بالوكالة.
هل ما كتبه كيلو حلماً؟ من الممكن، ولكنه أفق متاح وممكن، لأنّ البدائل المطروحة، سواء مما آلت إليه حال المعارضة المسلّحة أو النظام السوري، الذي أصبح ملحقاً تماماً بالنفوذ الإيراني، ليس أفضل، والأهم من ذلك أنّه يوقف نزيف الدم المجّاني حالياً في سورية، وربما يشكّل نقطة تحول لمرحلة إعمار وترميم اجتماعية إنسانية واسعة، لأنّ المسار الحالي كارثي بكل المعاني وعلى الجميع.