الرئيسية مقالات واراء
إدارة دفّة الأمور في البلاد تتطلب اليوم التفكير الجدّي بأفرول شامل على صعيد السياسات، وعلاقة الدولة بالمواطنين، أو ما عبّرنا عنه سابقاً بالقول بأنّ هنالك ضرورة اليوم لعقدين جديدين، الأول مجتمعي، توافقي وطني، يمثّل الميثاق الوطني في العام 1992، وثيقة مهمة له، يمكن تطويرها والبناء عليها، لأنّه بني على توافقات سياسية مجتمعية عميقة، والثاني عقد اجتماعي، أو نصّ آخر شارح وموضّح للدستور الأردني.
لماذا؟!
لأنه، كما قلنا أمس، فإنّ التحديات والظروف والشروط ومصادر التهديد والفرص الداخلية والخارجية، المرتبطة، المحيطة بالأردن تغيّرت، بل انقلبت رأساً على عقب، فلا يمكن الاستمرار بالعقلية القديمة في صوغ العلاقة بين الدولة والمواطنين، إذا أردنا فعلاً الدخول إلى المستقبل ومواجهة الأزمات والتحديات الهائلة أمامنا.
مثلاً، تحدثت مدير عام مؤسسة الضمان الاجتماعي ناديا الروابدة، في ندوة حوارية، مؤخراً عن وجود مشكلة كبيرة تتمثل بـ"التقاعد المبكّر"، الذي يأكل 58 % من الفاتورة الشهرية لرواتب متقاعدي الضمان، وهي نسبة مرتفعة جداً، إذ وصل متقاعدو الضمان المبكّر إلى قرابة 100 ألف، ونسبتهم 47 % من إجمالي متقاعدي الضمان، أي قرابة النصف!
مثل هذه النسبة كبيرة جداً، ومؤثرة على مستقبل أغلبية الأردنيين، وتحتاج إلى ثقافة جديدة في التعامل مع هذه الظاهرة الخطرة، التي أدى التساهل فيها اليوم إلى كارثة حقيقية.
مثال آخر، ما قام به جمهور الفيصلي ولاعبوه، وما يحدث في مدرجاتنا، انسوا المباراة والتحكيم وكل هذه القصة، وأنا أطرحه هنا من زاوية أخرى، هي زاوية الثقافة المجتمعية والسياسية، ولا أتحدث أيضاً عن شغب الملاعب، فهو في كل بلاد العالم، بل عن عقلية "دقّ خشوم" والهتافات الهوياتية المتبادلة الخطرة، التي تنمّ عن ضعف الثقافة المدنية والإيمان بسيادة القانون واحترام الآخر.
لا أريد أن أعيد ما تحدّثنا عنه أمس عن التحولات الكبرى في المحيط الإقليمي والمشكلات الداخلية المتراكمة غير المسبوقة، لكنّني أريد أن أؤكّد ما تحدثنا به أمس أنّنا أمام استحقاق تاريخي جديد، يدفع بالنخب المثقفة والسياسيين والأكاديميين ومراكز الدراسات إلى التفكير معمّقاً بمستقبلنا، بالأجيال القادمة، لأنّ المسار الراهن ليس مطمئناً بأيّ حال من الأحوال، لا يمكن التعاطي معه بعقلية "الدكّانة" فقط، أقصد الأرقام في الموازنة، وحسابات الزائد والناقص، لأنّ مفهوم الدولة، وكررنا هذه الكلمة لأهميتها كثيراً، بنية المفهوم في علاقة المواطن الأردني بنظامه السياسي، تغيّرت جذرياً، ما يعني أنّنا بحاجة اليوم إلى نظرية جديدة في السياسات الأردنية، في الثقافة الوطنية، في الرسالة السياسية، وما يترتب عليها من رسالة إعلامية من الدولة إلى المواطنين.
بالطبع عندما نتحدث عن "أفرول وطني"، فإنّ ذلك لا يعني دفعة واحدة، ومرّة واحدة نغيّر كل شيء، فذلك – أصلاً- غير ممكن، لكنه يعني أنّنا نريد خريطة طريق وطنية- أردنية حقيقية، ترسم معالم المرحلة القادمة، توضّح للأردنيين؛ أين كنا؟ وأين نحن؟ وإلى أين سنصل؟ تضع الأولويات وتعيد ترسيم المفاهيم والقيم الحاكمة وقواعد العلاقة بصورة واضحة.
يمكن أن نبدأ بالإصلاح الإداري، كعنوان مهم، وبموضوع الشباب، وبإعادة هيكلة سوق العمل، وبالتعليم، وتعظيم التعليم المهني والتقني، وبقوانين العمل وبيئته الحاضنة، وباجتراح فلسفة أردنية عميقة لمفهوم "التنمية الوطنية المتكاملة".
علّق الوزير الأسبق سامر الطويل، على مقالة الأمس، بالقول بأنّ التحول عن مفهوم الدولة الريعية، يتطلب إيجاد البديل، الذي يحقق التوازن الاقتصادي- الاجتماعي، وهذا صحيح تماماً، لكن علينا أن نبدأ بمناقشة هذه المشكلات بصورة صريحة ومباشرة، على الأقل على صعيد النخب المفكرة والمثقفين والسياسيين، الذين يملكون حسّاً تاريخياً وإدراكاً عميقاً للمشكلات، خارج إطار المناكفات اليومية المعتادة.