طريقة العرض :
كامل
الصورة الرئيسية فقط
بدون صور

اظهار التعليقات

احداث اليوم

اتفاق دمشق-قسد .. بين الاحتواء وإعادة رسم التوازنات


الاتفاق بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) ليس مجرد وثيقة تُوقع، بل هو عملية جراحية دقيقة على جسد سياسي مُنهك، فالشَق الأول قد يكون سهلًا، لكن التحدي الحقيقي يكمن في التئام الجرح دون أن يتحول إلى نزيف جديد، الدولة السورية تسعى لاستعادة السيطرة دون انتكاسات، لكن دمج قسد في مؤسساتها يظل خطوة محفوفة بالمخاطر؛ لأن الأرض التي فقدتها لم تعد كما كانت، وتحولت إلى كيان قائم بذاته له هياكله وتحالفاته وتوازناته.
قسد ليست كيانا موحدا، إنما شبكة متداخلة من الفصائل والمصالح، تعتمد في بقائها على توازنات محلية ودعم خارجي متغير، والاتفاق معها أشبه بمحاولة رسم شكل ثابت على سطح الماء، فما يبدو مستقرًا قد يتلاشى عند أول اضطراب، لكن الإشكالية الأكبر أن أي قوة عسكرية مستقلة داخل الدولة ليست إلا قنبلة موقوتة، والتاريخ واضح في أحكامه، الجيوش الخاصة إما أن تنصهر تماما في جسد الدولة، أو تتحول إلى ندّ دائم لها.
على الجانب الآخر، قسد نفسها تقف أمام معادلة شائكة، فقبولها بالاندماج هو عمليًا إعلان نهاية لاستقلالها السياسي والعسكري، لكنه قد يكون أيضًا انتقالا تكتيكيا يمنحها شرعية كانت تفتقدها، وهنا يصبح الحديث عن “حقوق المكوّن الكردي” اختبارا للنوايا السياسية، بين كونه بادرة لشراكة سياسية حقيقية، أو مجرد قفاز حريري يُخفي تحته قبضة السلطة المركزية.
بهذا المعنى، الاتفاق يسير على حبل مشدود بين الاستيعاب التدريجي والإخضاع الناعم، وبين الاعتراف بواقع جديد وإعادة إنتاج السلطة المركزية بخطوات مبطنة، فهل هو اتفاق بُني ليصمد، أم مجرد استراحة في معركة لم تُحسم بعد؟ الإجابة ستعتمد على قدرة دمشق على احتواء كيان نشأ خارجها دون أن تفقد مركزيتها، وقدرة قسد على المناورة دون أن تجد نفسها وقد فقدت كل شيء.
ولأن السياسة لا تُقرأ بمعزل عن الأطراف التي لم تكن جزءًا من أي اتفاق، فإن الفصائل المسلحة المدعومة من تركيا، التي لطالما اعتبرت قسد خصما استراتيجيا، لن تتقبل بسهولة رؤية خصم الأمس يعود إلى كيان الدولة؛ لأن المصالح التي رُسمت على خطوط النار لا تُمحى بتوقيع اتفاق، أما الجماعات السلفية المتشددة، التي لا تزال تحتفظ بجيوب نفوذها، فلن تقف متفرجة على تمدد جديد لدمشق في مناطقها؛ لأن ما تحقق بالسلاح لا يُسلّم لحبر التوقيعات، وأما على المسرح الدولي، تبدو التوازنات أشبه بحبال مشدودة، حيث تحاول تركيا فرض واقع جديد شمالًا، بينما تراقب واشنطن من بعيد، متسائلة هل لا تزال قسد ورقة يمكن المناورة بها، أم أنها بدأت تتحرر من قبضة الحسابات الخارجية؟
الاتفاقات السياسية عادة ما تحمل رسائل غير مباشرة، وفي هذا المشهد يمكن قراءة عدة رسائل، الأولى إلى أنقرة، بأن الدولة السورية لم تفقد قدرتها على استعادة ما خرج عن قبضتها، وإن كان بأساليب غير تقليدية، والثانية إلى واشنطن، بأن الحلفاء ليسوا دائمًا أوفياء، وما يُبنى على الدعم الخارجي قد ينهار عند أول تسوية داخلية، أما الداخل السوري، فرسالته أكثر حسماً، المصالحة ممكنة لكنها لا تتم إلا بشروط المنتصر، حتى لو لم يُحسم النصر بعد.
أما من الناحية القانونية، فإن الاتفاق يُقرأ كخطوة لإنهاء التشرذم، لكنه في الواقع يظل إطارا نظريا ما لم يُترجم إلى خطوات عملية بإرادة سياسية حقيقية؛ فالقوانين انعكاس لموازين القوى، والدساتير تُرسخ بالإرادة والتطبيق، وإلا بقيت مجرد حبر على ورق، لذلك أي فشل في التنفيذ لن يعيد الأزمة إلى نقطة الصفر فحسب، بل قد يخلق نسخة أكثر تعقيدًا منها؛ لأن التراجع من منتصف الجسر أخطر من عدم العبور أصلا.
إحدى أكثر النقاط إثارة للجدل في الاتفاق هي ضمان “حقوق المكوّن الكردي”، وهو بند يمكن أن يُفسر كخطوة نحو شراكة سياسية حقيقية، لكنه يفتح الباب أيضًا لتأويلات متناقضة؛ فإذا كان الهدف إعادة تعريف الدولة السورية في مرحلة ما بعد الحرب، فقد يكون الاتفاق بداية لتحول سياسي أعمق، أما إذا كان مجرد غطاء لإعادة فرض السلطة المركزية دون إعادة هيكلة فعلية، فقد يتحول إلى قيد ناعم يعيد إنتاج التوترات بصيغة جديدة.
أما دمج المؤسسات العسكرية والمدنية ضمن الدولة، فهو خطوة حاسمة لكنها محفوفة بالمخاطر، فالسؤال هنا هل هو إعادة إنتاج للنموذج القديم، حيث المركز يُملي ويُخضع، أم أننا أمام نواة لنظام أكثر مرونة وتعددية؟ هذا البند تحديدا قد يكون مفتاح نجاح الاتفاق أو سبب انهياره.
لكن التحدي الأكبر لا يكمن فقط في استيعاب قسد داخل الدولة، بل في إعادة تعريف الدولة نفسها، فالجغرافيا التي تحاول دمشق استعادتها لم تعد مجرد أرض، بل كيانات بنت هياكلها الخاصة وفرضت وجودها بقوة الأمر الواقع، لذلك، فإن الاتفاق ليس مجرد استعادة للدولة بقدر ما هو إعادة تفاوض على مفهومها وحدود سيادتها.
في السياسة والقانون، لا يُقاس نجاح الاتفاق بمدى إحكام نصوصه، بل بقدرته على الصمود أمام اختبار الزمن، بعض الاتفاقات تُبنى لتدوم، وأخرى ليست سوى استراحات تكتيكية قبل جولات جديدة من الصراع، والسؤال الآن هل استطاع الشرع أن يضع سوريا على مسار جديد، أم أنه فتح بابا لمواجهة جديدة لم تتضح معالمها بعد؟ الإجابة لن تأتي من بنود الاتفاق، بل من اختبار الواقع، حيث لا تُقاس القرارات السياسية بعدد التوقيعات، بل بمدى قدرتها على البقاء عندما تبدأ المصالح المتضاربة في فرض نفسها.
بين الجرأة والمخاطرة، اختار الشرع أن يتحرك سريعا، وهذه اللحظات تحتم الجرأة في اتخاذ القرار، لكن السياسة تفرض على رئيس المرحلة الانتقالية أن يكون حذرا أيضا؛ لأن هناك حدا دقيقا بين الإنجاز والانزلاق نحو هاوية غير محسوبة، فالأهم من السرعة هو الاتجاه الصحيح؛ لأن العواقب قد لا تظهر إلا حين يصبح التراجع أصعب من الاستمرار، والسؤال الأهم هل استعجل الخطوة دون أن يضمن الأرضية الصلبة لها؟
لا شك أن الشرع كان يسعى لاستعادة وحدة الدولة، لكن الحذر كان يفرض عليه التعامل مع قسد كتشكيل متعدد الولاءات، ومحاولة دمجها تدريجيا مع تفكيك بنيتها العسكرية المستقلة، لتجنب أي عواقب غير محسوبة، كما أن فرض جدول زمني صارم لدمج قسد كان سيقلل من المخاطر، حتى لا تتحول العملية إلى مشروع مفتوح على احتمالات التأجيل والمراوغة.
في النهاية، السياسة لعبة موازين، والاتفاقيات ليست سوى أدوات في هذه اللعبة، راهن الشرع على إمكانية استعادة الدولة عبر الاحتواء، لكن هل كان رهانه في محله؟ أم أنه فتح بابا جديدا لصراع لم يُحسم بعد؟ هذا ما سيكشفه الزمن، وقد لا يحتاج الأمر إلى وقت طويل قبل أن تظهر ملامح الإجابة الأولى.

جميع الحقوق محفوظة
https://www.ahdath24.com/article/295853/3