طريقة العرض :
كامل
الصورة الرئيسية فقط
بدون صور

اظهار التعليقات

احداث اليوم

الأبراج العالية وظلالها الممتدة


في عالم السياسة، هناك لحظات تشبه دوران الشمس، تنقل بعض العواصم من شفق الغياب إلى وهج التأثير، واليوم يجد العرب أنفسهم أمام لحظة تحول نادرة ناتجة عن وعي عميق بقواعد الصراع الدولي؛ فوفق اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية (1961)، يحق للدول تشكيل شبكات نفوذ لحماية مصالحها، وهي قاعدة لطالما استثمرتها القوى الكبرى، لكن العرب باتوا يوظفونها بذكاء، ليصبحوا رقمًا صعبًا في معادلات السياسة العالمية، ولم تعد العواصم الغربية تُملِي قراراتها كما في الماضي، بل أصبحت تبحث عن توافق مع لاعب جديد يفرض نفسه بندّية، حيث باتت العواصم العربية جزءًا من عملية الصياغة، تدير مفاوضاتها وفق مصالحها.

لطالما كان يُنظر إلى دول الخليج باعتبارها مجرد مخزون استراتيجي للطاقة، تلعب دورًا تكميليًا في السياسات الدولية دون قدرة فعلية على التأثير في موازين القوى، لكن هذا التصور أصبح جزءًا من الماضي. اليوم، يشهد الخليج تحولًا جوهريًا يجعله فاعلًا دوليًا مؤثرًا، يفرض نفسه على الساحة السياسية والاقتصادية العالمية بندية غير مسبوقة.

على مدار عقود، كانت أسواق الطاقة تُدار من بورصات نيويورك ولندن، والمصالح تُحسم في كواليس واشنطن وباريس، أما العواصم الخليجية، فكانت تُعامل بمنطق الحاجة المؤقتة، إما باعتبارها “خزانًا نفطيًا” أو “محفظة استثمارية”، حتى أن واشنطن اعتادت مخاطبة الخليج من موقع “المعلم الصارم”، لكن اليوم أدرك الخليج أن المال بلا تأثير مجرد رقم، وأن تحويله إلى نفوذ يبني ميزانًا جديدًا للقوة. فأصبح لاعبًا رئيسيًا يُحدد كيف تُدار اللعبة، وتُصاغ قرارات “أوبك+” برؤية خليجية تضع الاستقرار في المقدمة، ولم تعد الاستثمارات الخليجية مجرد ودائع خاملة، بل تحولت إلى أدوات تأثير ناعمة تستخدم بذكاء في مراكز صنع القرار، حتى أن واشنطن باتت مضطرة لإعادة حساباتها، إذ لم يعد بإمكانها التعامل مع الخليج بمنطق التعليمات، بل بات الحوار والتفاوض عنوان العلاقة.

اللوبي الخليجي الناعم أصبح حاضرًا في دهاليز السياسة الدولية، لا يثير الضجيج لكنه فاعل في أسواق المال وقرارات الطاقة وتمويل المشاريع الاستراتيجية، وأعاد ترتيب الأولويات بهدوء مدروس، لم تعد الشركات العالمية تكتفي بالأسواق التقليدية، بل باتت تبحث عن موطئ قدم في العواصم الخليجية، مدركةً أن الاستقرار لم يعد في الغرب وحده، بل حيث تُصنع الفرص. ومع هذا التحول، لم يعد الخليج مجرد “زبون اقتصادي”، بل شريك استراتيجي يفرض حضوره.

هذا الامتداد الخليجي لم يقتصر على الاقتصاد، بل تجلى في الملفات السياسية، حيث يدير التوازنات في السودان ولبنان، ويقود وساطات إقليمية تُعيد تشكيل المعادلات الدبلوماسية، هذا الدور لم يأتِ من فراغ، بل هو نتيجة إدراك عميق بأن الاستقلال السياسي لا يتحقق بالشعارات، بل عبر إعادة تعريف معادلة النفوذ، ووفقًا لاتفاقية الأمم المتحدة حول السيادة الدائمة على الموارد الطبيعية (1962)، تمتلك الدول الحق الكامل في إدارة مواردها دون تدخل خارجي، واليوم، ولأول مرة منذ عقود، تتحرك دول الخليج وفق هذا المبدأ، مستخدمة استثماراتها كأداة سيادية لتعزيز نفوذها إقليميًا ودوليًا.

لم يكن بناء اللوبيات الخليجية في واشنطن ولندن وبروكسل مجرد محاولة لشراء النفوذ، بل كان إدراكًا بأن الحروب الحديثة تُخاض في مراكز صناعة القرار أكثر مما تُخاض في ساحات القتال، وهذه اللوبيات لم تكتفِ بدفع الأجندات الإقليمية، بل باتت تدير التوازنات الاستراتيجية، وتعيد توجيه المصالح الكبرى بما يخدم الخليج، لا بما يُفرض عليه، فلم يعد المال العربي تابعًا، بل صار يملي شروطه، ويُصيغ مساراته الخاصة.

ولم يعد خيار التحالف مع واشنطن أو لندن حتميًا، فمع صعود الصين والهند وتحالف النفط بين الرياض وموسكو، باتت العواصم الخليجية تتعامل مع القوى الكبرى بمنطق الشراكة لا التبعية، ومع هذا التحول ظهر لوبي خليجي مؤثر داخل واشنطن، لا يقتصر دوره على تمويل الحملات السياسية، بل يضغط في الكونغرس، ويؤثر في صناعة القرار بندّية، بعدما كان لعقود مجرد طرف هامشي، هذا التغير لم يكن خفيًا عن ترامب في ولايته الجديدة، فالرجل الذي قال في 2017: “أعطونا المال، نعطيكم الحماية”، وجد نفسه اليوم أمام معادلة مختلفة، حيث باتت واشنطن تحتاج الخليج بقدر ما يحتاجها، وأصبحت المفاوضات تدور وفق مصالح متبادلة لا إملاءات.

الخليج اليوم يُدير أوراقه بحذر، يشبه في دوره الكثبان الرملية في الصحراء، لا تواجه العواصف مباشرة، بل تتحرك معها، تتكيف دون أن تفقد جوهرها، تذوب حيث يجب، وتتشدد حين يتطلب الأمر، هذه القدرة على التكيف جعلت الخليج لاعبًا لا يمكن تجاوزه، يتنقل بين المصالح الدولية بمرونة، دون أن يُعلن عن نواياه بصخب، بل يدير اللعبة بصمتٍ محسوب.

ورغم هذا الصعود، لا يخلو المشهد من تحديات، فإلى جانب الضغط الأمريكي المستمر، والانفتاح الاقتصادي مع الصين والهند، هناك اختبارات حساسة، أبرزها الملفات العربية، فحين بدأ الخليج بتحريك دبلوماسيته، وُجهت إليه اتهامات تتراوح بين “بيع القضايا العربية” و”التطبيع”، لكن من يقرأ المشهد بواقعية، يدرك أنه لم يكن بائعًا ولا مشتريًا، بل كان يعيد رسم دوره وفق معادلة أكثر توازنًا، انتقل فيها من تابعٍ يُطلب منه الدفع إلى شريكٍ يضع شروطه على الطاولة، ويوزع أوراقه بذكاء بين الشرق والغرب، لأن السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، لا يتحرك أحدهما دون أن يعيد تشكيل الآخر.

هذا التحول بات واقعًا تجسد في مراكز القوة الخليجية؛ فالسعودية تقود تحولًا نحو “اقتصاد التأثير” عبر الاستثمار والتحالفات الذكية، ودبي، التي كانت تُعامل كميناء تجاري، أصبحت مختبرًا ماليًا عالميًا تُصاغ فيه صفقات تُحدد مسارات التجارة الدولية، أما الدوحة، فلم تعد تكتفي بكونها قوة إعلامية، بل رسّخت موقعها كلاعب سياسي حاضر في كل معادلة تفاوضية، فيما تكتب أبوظبي معادلات القوة بهدوء استراتيجي، حيث لا يحتاج النفوذ إلى الصخب ليكون فاعلًا.

لم يكن الخليج يومًا لاعبًا هامشيًا في القضية الفلسطينية، لكنه رفض أن يكون ساحة للمزايدات، فبدلًا من رفع الشعارات، اختار مسارًا براغماتيًا يضع المصالح العليا في المقدمة، لأن الواقع كشف أن المنطقة لا تدار إلا بتوازنات القوة والشراكة المتكافئة، وإذا كان الخليج قد أدرك أن من لا يكتب قواعد اللعبة يُحكم بشروط الآخرين، فإن هذا الإدراك يجب أن يتحول إلى نهج عربي أوسع، يُعيد توزيع أوراق القوة بعيدًا عن الارتهان التاريخي، باتجاه لوبيات جديدة تواكب التحولات الدولية، حيث لا يُطلب القرار بل يُصنع، ولا تُستجدى المكانة بل تُفرض.




جميع الحقوق محفوظة
https://www.ahdath24.com/article/295892/3